مناضل فلسطيني كرّس حياته للعمل الدؤوب والمتواصل من أجل القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي ومستقبل أفضل للأمة العربية. طبيباً تحول إلى طريق النضال ليعالج جراح شعبه ويعيش هموم أمته، مؤمناً بالهوية العربية وبحتمية الانتصار وهزيمة المشروع الصهيوني على الأرض العربية.
ولد الدكتور جورج حبش في اللد عام 1925، ونشأ وسط عائلة ميسورة الحال تتألف من سبعة أولاد وتمتلك أراضي زراعية ومحلات تجارية، حيث كان والده تاجراً معروفاً في فلسطين، كما كانت والدته تحرص على توجيه أولادها لمتابعة دراستهم والحصول على شهادات جامعية.
في عام 1961 تزوج ابنة عمه هيلدا حبش من القدس، التي وقفت إلى جانبه وشاركته في جميع مراحل حياته النضالية على مدار أربعين عاماً بشجاعة نادرة وما زالت، وخاضت نضالاً مديداً في تصديها لكافة المؤامرات التي تعرض لها الحكيم، من محاولات اختطاف واغتيال، وتحملت عناء الاعتقال والاختفاء إلى جانب نشاطها الجماهيري والنسوي المتميز بعيداً عن الأضواء، خاصة أثناء الحرب الأهلية في لبنان. له ابنتان، ميساء وهي طبيبة متزوجة ولها ثلاث أولاد، ولمى وهي مهندسة كيماوية.
أكمل المرحلة الابتدائية في اللد ثم انتقل لمتابعة دراسته الثانوية في كل من مدينتي يافا والقدس. ثم تخرج من مدرسة تراسنطة في القدس. ] ومن الجدير بالذكر أنه عاد إلى يافا مدرساً لمدة عامين قبل التحاقه بالجامعة، مع أنه لم يكن قد تجاوز السادسة عشر من العمر[.
كان الشعور العام في فلسطين مشحوناً بالغضب والاستياء من الانتداب البريطاني آنذاك، الذي مهّد الطريق للعصابات الصهيونية ( الهاغاناه، شتيرن...الخ )، الأمر الذي توج باحتلال فلسطين من قبل هذه العصابات واقتلاع غالبية الشعب الفلسطيني من أرضه.
انتقل إلى بيروت عام 1944 للالتحاق بكلية الطب في الجامعة الأمريكية. تخرج طبيباً عام 1951. و من الجدير ذكره أنه كان طالباً ناجحاً ومتميزاً، عاش حياته الجامعية جامعاً بين الدراسة وهواياته في الرياضة وحب الفنون والموسيقى.
شكلت السنوات في الجامعة الأمريكية المرحلة التي تبلور فيها انتماؤه وفكره القومي، حيث تأثر بفكر أستاذه الكبير قسطنطين زريق الذي كان بمثابة الأب الروحي للفكر القومي العربي. كما كانت الجامعة الأمريكية ملتقى للشباب العرب الذين قدموا من مختلف الأقطار العربية يحملون همومهم وأحلامهم القومية المشتركة، حيث شاركوا في نشاطات جمعية العروة الوثقى، وهي جمعية ثقافية انتخب الدكتور حبش أميناً لهيئتها العامة عام 1950.
أما الحدث الجسيم الذي تخلل سنوات دراسته الجامعية فهو نكبة عام 1948 الذي كان منعطفاً تاريخياً ونقطة تحول في حياته، إذ قطع دراسته واندفع نحو فلسطين التي بدأت تسقط بلدة تلو الأخرى في يد العصابات الصهيونية. عمل كطبيب متدرب في مستوصف اللد حيث عالج الكثير من الجراح، لكن الجرح الكبير كان سقوط اللد واستشهاد شقيقته الكبرى في تلك الهجرة القاسية، تاركة وراءها ستة أطفال، كما تساقط المئات والآلاف من الفلسطينيين واقتلع شعباً بأكمله من الجذور. هكذا تحول الدكتور جورج حبش الذي لقب بالحكيم من طبيب وإنسان يمارس الحياة الطبيعية إلى مقاوماً وثائراً، وبعد سنوات من الدراسة والتنظيم واستلهاماً لفكر قسطنطين زريق وساطع الحصري قام جورج حبش مع مجموعة من الرفاق مثل وديع حداد، هاني الهندي، أحمد الخطيب، صالح شبل وحامد جبوري بتأسيس حركة القوميين العرب عام 1951، التي كانت تستهدف نهوض عربي شامل في المنطقة.
وقد لعب الدكتور جورج حبش ورفاقه دوراً قيادياً في المظاهرات الطلابية التي عمت لبنان في تلك الفترة. هذه المظاهرات الحاشدة التي جرت في أواخر تشرين أول عام 1951 تأييداً لموقف حكومة مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد، التي قامت بإلغاء المعاهدة المصرية – البريطانية. وألهبت خطوة الوفد الشجاعة مشاعر الجماهير العربية ولقيت الدعم في معظم البلدان العربية وخاصة بلدان المشرق العربي.
ثم تابع الدكتور حبش النشاط السياسي في الأردن عام 1952، ومارس مهنة الطب هناك مع الدكتور وديع حداد، وأقاما عيادة وسط عمان وقدما علاجاً مجانياً للطبقة المسحوقة من أبناء المخيمات. وكانت هذه العيادة مركزاً للتعبئة والتوعية السياسية ونشر أفكار حركة القوميين العرب، حيث كان هناك هامشاً من الحريات في الأردن في ذلك الوقت. سرعان ما تعرض بعدها للملاحقة، مما أضطره للعمل السري والاختفاء لمدة عامين في الأردن، وبعدها انتقل إلى سوريا ليمارس نشاطه السياسي والجماهيري في دمشق.
الحدث الأبرز عام 1952 كان قيام الضباط الأحرار في مصر بإعلان الثورة على النظام الملكي، وبدأ المد القومي بالتنامي بدعم من الرئيس عبد الناصر وصولاً لإعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، الأمر الذي أعطى زخماً كبيراً لحركة القوميين العرب، حيث كانت هناك روابط متينة وعلاقة متميزة مع الرئيس عبد الناصر.
ومن المفارقات السياسية، أن الدكتور جورج حبش تعرض للمطاردة والملاحقة ومحاولات الاعتقال من قبل كل من الرجعية المعادية للوحدة، التي قامت بالانفصال عام 1961، ومن القوميين البعثيين الذين استطاعوا إسقاط الرجعية واستلام السلطة عبر ثورة آذار وذلك بسبب الخلافات التي نشبت بينهم وبين الناصريين، الذين قاموا بدورهم (أي الناصريون) بمحاولة انقلاب فاشلة، نتج عنها حملة إعتقالات ومحاكمات واعدامات، وكان د.حبش ممن أصدر البعثيون بحقهم حكم الإعدام بتهمة المشاركة مع الناصريين بمحاولة الانقلاب الفاشلة.
كانت هذه المرحلة الممتدة من 61-64 من المراحل البالغة الصعوبة والقاسية من نضاله السياسي ، إذ تميزت بطابعها السري، نتيجة اشتداد حملات المطاردة والملاحقة لاعتقاله، ترافق ذلك مع بداية حياته الزوجية، مما اضطره عام 1964 للانتقال سراً من دمشق إلى بيروت ومواصلة نضاله من هناك.
كان لهزيمة 1967 والكارثة الكبرى بسقوط القدس واحتلال ما تبقى من الأراضي الفلسطينية بالغ الأثر في نفس الدكتور جورج حبش، وكان لها أثراً كبيراً أيضاً في انحسار المد القومي بشكل عام، علماً أن نشاط حركة القوميين العرب كان قد شمل كافة الأقطار العربية من لبنان والأردن وسورية وصولاً لليمن والبحرين وليبيا. كما كانت الهزيمة سبباً في التحول الأيديولوجي من حركة قوميين عرب إلى حزب ماركسي لينيني دون أن يتعارض هذا التحول مع الانتماء القومي، حيث تم تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 وبدأ الإعداد الجدي للكفاح المسلح.
أعتقل عام 1968 في سوريا لمدة عام، ثم نفذت بعدها عملية اختطاف لتهريبه من السجن خطط لها ونفذها الدكتور وديع حداد. وعندما أصبح خارج السجن عام 1969 وجد نفسه أمام مؤامرة وانشقاق سياسي تنظيمي قام به نايف حواتمة.
انتقل إلى الأردن سراً عام 1969، حيث كانت مرحلة المقاومة الفلسطينية في الأردن، التي شهدت الكثير من المصادمات مع الجيش الأردني أدت إلى معارك ضارية في أيلول عام 1970 وخروج المقاومة الفلسطينية من عمان إلى أحراش جرش. وفي عام 1971، وبعد عام من الحياة القاسية وسط الأحراش تم تطويق القواعد الفدائية مما أدى إلى تغلب الجيش على المقاومة وخروج المقاتلين والقيادة إلى لبنان.
في العام 1972 تعرض لنوبة قلبية كادت تودي بحياته. وفي نفس العام استشهد الرفيق غسان كنفاني على يد الموساد، وكان للحادث وقع الصاعقة على الحكيم. وفي العام 1973 دارت معارك طاحنة مع الجيش اللبناني، وفي نفس العام تعرض الدكتور حبش لمحاولة اختطاف حيث قامت إسرائيل بخطف طائرة ميدل إيست اللبنانية كان يفترض وجود الحكيم على متنها، لكنه نجى منها بأعجوبة نتيجة لإجراء أمنى احترازي أتخذ باللحظات الأخيرة قبل إقلاع الطائرة.
عام 1975 انفجر الوضع في لبنان بين القوى الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية وبين الكتائب والقوى اللبنانية اليمينية المتعاونة مع إسرائيل تحت غطاء حرب أهلية طائفية، انتهت بكارثة أدت إلى دمار البلد واستشهاد أكثر من مائة ألف مواطن.
كان لاستشهاد الدكتور وديع حداد في ظروف غامضة عام 1978 أكبر الأثر على الحكيم، حيث فقد برحيله صديق ورفيق الدرب وقائداً بارزاً للشعب الفلسطيني.
تعرض الدكتور حبش عام 1980 لنزيف دماغي حاد، ولكنه استطاع بإرادته الصلبة أن يتغلب على المرض واستمر على رأس عمله يمارس مهماته كأمين عام للجبهة الشعبية حتى استقالته من الأمانة العامة للجبهة عام 2000.
عام 1982 توجت الحرب اللبنانية بالاجتياح الإسرائيلي للبنان، حيث صمدت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ثمانون يوماً بوجه عدوان إسرائيلي شرس استخدمت فيه شتى أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرمة دولياً انتهت بحصار بيروت ورحيل المقاومة عن المدينة. وهنا توجهت القيادة الفلسطينية المتمثلة بياسر عرفات إلى تونس، أما الدكتور حبش فقد اختار دمشق كمقر جديد له وللجبهة الشعبية مع باقي الفصائل الفلسطينية لإيمانه العميق باستمرار النضال من إحدى بلدان الطوق مهما كانت الصعوبات.
في عام 1983 عقد المجلس الوطني فلسطيني بعد الخروج من بيروت دورته السادسة عشر في الجزائر، كان للحكيم فيه كلمة تاريخية أعلن فيها الإصرار على استمرار المقاومة بشتى الوسائل.
في عام 1986 تعرض لمحاولة اختطاف ثانية عندما أقدمت إسرائيل على خطف الطائرة الليبية الخاصة التي كان على متنها من دمشق إلى ليبيا، وكان من المفترض أن يعود على نفس الطائرة، لكنه أجّل سفره في اللحظات الأخيرة فنجا بأعجوبة.
عام 1987 اندلعت الانتفاضة الأولى داخل فلسطين مما جعل الدكتور جورج حبش يجند كل طاقاته لدعمها ومساندتها، وكان له دوراً بارزاً في إدارتها.
لقد أدهش الشعب الفلسطيني العالم كله وهو يواجه الجيش الإسرائيلي المدجج بالسلاح بحجارته وإرادته الصلبة، هذه الإرادة الحديدية للشعب الفلسطيني جعلت إسرائيل ولأول مرة تجلس على طاولة المفاوضات مع الفلسطينيين.
عام 1988 عقد المجلس الوطني دورته التاسعة عشر في الجزائر، والذي نتج عنه إعلان وثيقة الاستقلال. لكن حرب الخليج الثانية وما نتج عنها من انقسام في الصف العربي، وضرب العراق وحصاره، هيّأت الظروف المناسبة لطرح مبادرات التسويات الاستسلامية، فانعقد مؤتمر مدريد.
عاد إلى عمان عام 1990 بعد غياب عشرين عاماً للمشاركة في المؤتمر الشعبي لمساندة العراق أثناء حرب الخليج التدميرية.
بدأت الاتصالات السرية بين القيادة الفلسطينية وإسرائيل بإشراف ورعاية أمريكية بعد مؤتمر مدريد عام 1991 ونتج عنها اتفاق أوسلو عام 1993.
لقد عارض الدكتور حبش بشدة تلك الاتفاقيات التي أدت إلى إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني في مرحلة لاحقة، إيماناً منه أن هذه الاتفاقيات لم تلب الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة فوق تراب فلسطين وعودة اللاجئين إلى وطنهم.
عام 1992 توجه إلى فرنسا للعلاج بعد موافقة الحكومة الفرنسية، لكن سرعان ما تحولت زيارة العلاج إلى قضية سياسية كبيرة. فقد تم احتجازه من قبل القوات الخاصة بمكافحة الإرهاب ( DST ) تحت ضغط اللوبي الصهيوني حيث احتشد الآلاف من اليهود في ساحة المستشفى. وطلبت إسرائيل من فرنسا تسليمه لها، بينما أرادت الحكومة الفرنسية تحويله للقضاء بتهمة الإرهاب. لكن الدكتور حبش وزوجته هيلدا واجها هذا الموقف بتحد كبير وشجاعة نادرة.
إلا أنه غادر فرنسا وفشلت كل هذه المحاولات فشلاً ذريعاً، وذلك بسبب الضغوط الشعبية العربية ودور بعض الأنظمة الرسمية، وخاصة دور الجزائر الشقيق، حيث توجهت طائرة رئاسية جزائرية إلى فرنسا من أجل تأمين عودته وضمان سلامته.
بعد قيام السلطة الفلسطينية وعودة الكثير من القيادات الفلسطينية إلى أراضي السلطة الفلسطينية، ربط الدكتور حبش عودته إلى تلك المناطق بعودة جميع اللاجئين الفلسطينيين، رغم المناشدات والرسائل الكثيرة التي وجهت له، رافضاً التخلي عن اللاجئين.
عام 2000 قدم استقالته من منصب الأمين العام للجبهة في المؤتمر السادس، فاتحاً بذلك فرصة لرفاق آخرين، معطياً بذلك المثل والنموذج للتخلي الطوعي عن المسؤولية الأولى، رغم تزامن هذه الاستقالة مع عدم رضاه على بعض المواقف السياسية التي اتخذتها الهيئات القيادية للجبهة آنذاك.
استمر الدكتور حبش يؤدي دوره الوطني والسياسي، فالاستقالة من الأمانة العامة للجبهة لم تكن تعني أبداً التخلي عن النضال السياسي الذي أمضى ما يزيد عن خمسين عاماً مكرساً حياته من أجله، فاستمر في تأدية هذا الدور، وخاصة في ظل الانتفاضة الثانية والمتواصلة، وبقي على تواصل دائم مع الهيئات القيادية للجبهة ومع كافة الفصائل الوطنية والمؤسسات والفعاليات الوطنية الفلسطينية والعربية، الرسمية منها والشعبية.
بعد استقالته وتحرره من ضغوط العمل اليومي كمسؤول أول للجبهة الشعبية، حدد الدكتور حبش لنفسه ثلاث مهام أساسية:
المهمة الأولى: كتابة تاريخ حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية وتجربته النضالية.
المهمة الثانية: العمل لتأسيس مركزاً للدراسات يعنى بقضايا النضال العربي، وفي مقدمتها الصراع العربي الصهيوني، ومحرضاً على ضرورة تعمق العقل الفلسطيني والعربي في محاولة الإجابة عن أسباب الهزيمة أمام المشروع الصهيوني، رغم ما تمتلكه الأمة العربية من طاقات بشرية وإمكانيات مادية هائلة.
والمهمة الثالثة: العمل من أجل إقامة نواة جبهة قومية هدفها حشد القوى القومية العربية من أجل التصدي لمسؤولياتها وتوحيد جهودها في هذه الظروف، وفي مقدمة مهامها في هذه المرحلة مواجهة عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني.
وفي 26/1/2007 رحل الشهيد القائد جورج حبش بعد صراع مع مرض عضال، مخلفاً وراءه فراغاً كبيراً في جبهته الشعبية، وفي فلسطين التي نضال طوال حياته من أجل تحريرها واستقلالها.
فلروحه المجد والخلود
وعلى دربه إنا لسائرين