كان يوماً عصيباً وقاهراً... كان يوماً حتمياً وواقعياً بامتياز!
في لحظات قليلة، انتشر الخبر بسرعة انتشار قصيدته الساحرة ولفّ الحزن العميق، الرواية الفلسطينية المشتتة، وتحول الشاعر الخارق للمألوف الإنساني -في موته كما في حياته- إلى وطن يسكن إليه شعبه المعذب.
بكاه الفلسطينيون في كافة أرجاء الأرض، فقصائده أصبحت جزءاً أصيلاً من ذاكرتهم الحية منذ أمد بعيد، وبكاه المثقفون العرب، الذين طالما احتفوا به، وجميع مثقفي العالم ورواد الحرية الذين يقرؤون 22 لغة ترجمت لها قصائده الإبداعية المتفردة.
لست ناقدة أدبية، ولكني أعرف لماذا أحب الإنتاج الأدبي-الفكري لدرويش شعراً ونثراً، فقد قرأت معظم قصائده تحديدا أو استمعت إليها وهو يلقيها أمام حشود من الحالمين والطامحين إلى واقع أكثر سوية وعدالة، في عدد من العواصم العربية.
عندما تقرأ قصيدته، لا بد أن تدهشك العبقرية الممكنة، ولابد أيضاً أن تقتنع بأن لكل شيء نقيضه، أو يتحول إلى نقيضه في جدلية الصراع الإنساني من أجل البقاء... ومن أجل القيم الإنسانية الرفيعة.
وهكذا فنقيض الاحتلال هو التحرر الذي ننشده، ونقيض النكبة والتشرد وآلام الاقتلاع من الوطن هو الاستقلال والعودة والفرح القادم...
قصيدة درويش تقنعك بهذا وتقدم نفسها بنفسها لك ببراعة وسلاسة، تتحاور مع الزوايا المظلمة في الوجدان فتضيئها، وتتعامل مع الحياة بحكمة ومعرفة خارقة فالحياة ممكنة لمن يريدها ولمن يستطيع التعامل معها من دون عبث.
أما عندما تستمع لقصائده بصوته وطريقته الفذة في الإلقاء... فتصيبك حالة من القشعريرة والاستسلام للدروب التي يأخذك إليها..
قصيدته لا تحب البيان السياسي ولكنها واحة لكل المحاربين الذين أدمنوا المعاني المباشرة واللغة الجافة، فهي تمد لهم يداً خضراء وأفقاً يتسع لكل المغامرات من أجل التغيير، وهي الوجه الآخر المتمم للهوية الحضارية واستحضار بهاء الأرض في الذاكرة المزدحمة والمشوشة.
لا تستغرق قصيدة درويش في استفزاز آلامنا الوطنية والإنسانية العميقة، بل تجبرنا على التعرف على طاقتنا الكامنة وتحمل الآلام بكبرياء واقتدار.
كما لا تتفجع قصيدته على الشهداء الذين أحبتهم، بل تقنعهم بأن أرواحهم الطاهرة تستحق أن ترقد بسلام في وطن حر وسيد.
لا يتوقف شعر محمود درويش عند العذابات الإنسانية، بل يمضي مزدهراً ومتيقناً أن الحياة تفتح ذراعيها لكل العاشقين:
«مضت الغيوم وشردتني، ورمت معاطفها الجبال وخبأتني»..
هكذا عندما يتغلب الخيال الممكن على الواقع المرير، فعليك أن تفتح قلبك على سعته، وتطلق عقلك من أسره، ثم تبدأ حياة من نوع جديد؛ حياه لا تعرف السّكون.
يقول شاعرنا في إحدى مقابلاته إنه تأثر كثيراً بالإنتاج الأدبي للشاعر الإسباني الأندلسي لوركا، الذي اغتالته عصابات فرانكو في أغسطس (آب) العام 1936، وكان عمره سبعة وثلاثين عاماً، ولوركا الملقب بشاعر الإنسانية والثورة، كان معروفاً على نطاق واسع -أثناء حياته ايضاً- في القارات الخمس، وخلّف إنتاجاً أدبياً غزيراً وعبقرياً في الشعر والنصوص المسرحية. ووفاءًَ أو فضولاً استعدت قراءة إحدى مسرحيات لوركا: «عرس الدم»، فوجدت محاكاة غريبة لفهم الحياة وجدلية الصراع بين الرجلين وهما ينتميان لحقب زمنية وتاريخية متباعدة.
كما هو معروف فقد عكس محمود درويش رؤيته للحياة والموت في أكثر من قصيدة طويلة، وتحديداً منذ أجريت له عملية خطرة -قلب مفتوح- قبل حوالي عشر سنوات؛ وبعدها لم يستعد عافيته.. حاور الموت في أكثر من قصيدة وأخضعه لحالة الجدل الإنساني، وطوّعه كما يطوّع اللغة إلى كائن يمكن ألا نخشاه... نتحداه، نقبله ولكنا لا نستسلم له.
وهكذا كان لوركا يجد في مأساة الموت وجهاً من وجوه الحياة وفصلاً طبيعياً من فصولها:
«عندما أموت: ادفنوني مع قيثارتي تحت الرمال
عندما أموت بين البرتقال والنعناع..
عندما أموت ادفنوني إذا شئتم في مهب الريح»
لقد فسر الباحثون قصائد لوركا عن الموت باستشفاف الغيب، وأضافوا عنصراً جديداً على عبقريته التي اغتالتها اليد السوداء قرب غرناطة وتحت سماء إسبانية.
ليس هذا فقط ما يجمع الشاعرين: فلوركا غنى للحرية ولكرامة الإنسانية بصوت عال ودفع ثمن ذلك غالياً:
«أيتها الحرية العلوية، أيتها الحرية الحقيقية
أوقدي لي نجومك البعيدة»
كان محمود درويش صديقاً لمبدعين فلسطينيين من أجيال متقاربة سبقوه جميعاً إلى الموت، غسان كنفاني، ناجي العلي، إسماعيل شموط، توفيق زياد، إميل حبيبي، وإدوارد سعيد...
فمتى سيكرر الزمن الفلسطيني أمثال هؤلاء؟ وهل كنت على عجلة من أمرك يا محمود كي تلتقيهم؟ بعد أن تيقنت أنك تستطيع مواجهة الموت بقصيدة رائعة ووجه جميل وروح لا تعرف السكون؟
قل يا محمود لجميع هؤلاء إنه لا حدود للحزن الذي يغلف قلوبنا، ولكن لابد للأجيال الوفية أن تنبت زهوراً وياسميناً وبنفسجاً وعبقريات لا تنتهي..
سيستقبلك الشهداء على بوابة الأبدية يا محمود، فهم يحبونك كما أحببتهم. أنصح بألا تنقل لهم أخبارنا، وإذا وجدتهم يعرفونها فاعتذر لهم عما لم نفعله... دعهم يحتفون بك واقرأ لهم قصائدك عن الحياة والحرية والوطن، وقل لهم إن الأطفال يكبرون أسرع من الزمن العادي ويستعدون لتحقيق الحلم الكبير الذي لا بد أن يأتي يوماً.